03 February 2007

من مذكرات الولد الشقي

من كتاب مذكرات الولد الشقي ل / محمود السعدني
...
و ذات مساء قدر لي أن أقوم بأول وظيفة لي في الحياة كرجل، كان معنا زميل اسمه حسن و لم يكن على صلة وثيقة بنا، و تغيب ذات صباح عن المدرسة و قيل لنا إن أباه قد مات. و جاءني عبد المنعم الذي كان حريصا على أن يجامل الناس و سحبني معه إلى مأتم الرجل الذي لم نره قط ، و كان علينا أن نتصنع الحزن و الوقار و أن نكبس طرابيشنا على رؤوسنا و أن نجلس صامتين في الصوان نهز رؤوسنا كلما قرأ المقرئ بصوته القبيح آية من آيات الله. و نجحت و الحمد لله في تصنع الحزن الشديد، و لكني لم أكن أعرف حرفا مما يجب أن يقال في هذه المناسبات، فصافحت الواقفين على باب الصوان و تمتمت بكلمات غير مفهومة و جلست إلى جوار شيخ معمم و جلس عبد المنعم إلى جواري. و جاء رجل يحمل أقداح القهوة. فخطف الشيخ المعمم قدحا و فعلت مثله، فلما وصل إلى عبد المنعم رده شاكرا و لم يتناول من فوق الصينية قدحا! و شفطت القهوة على كره مني، فقد كانت شايطة و سادة و على وجهها تسبح قاذورات. و لم أكد انتهي منها حتى جاء الرجل مرة أخرى فخطف الشيخ قدحا و خطفت قدحا أنا الآخر و رفض عبد المنعم مرة أخرى أن يأخذ من الرجل شيئا! و تكررت العملية أكثر من عشرين مرة، كلما جاء الرجل يحمل أقداح القهوة خطف الشيخ المعمم قدحا و خطفت أنا الآخر قدحا و عبد المنعم مصر على الرفض. و كنت أشفط القهوة بحرقة و بصوت مسموع حتى يسمعني الجميع، و كان اعتقادي أن شرب القهوة هو مظهر الحزن الوحيد في هذا المجال. و لذلك ساءني موقف عبد المنعم جدا، فملت على أذنه و أنبته لعدم قبوله أقداح القهوة، على الأقل لنظهر أمام زميلنا حسن بمظهر الحزاني على فقده والده العزيز! و همس عبد المنعم في أذني و بهدوء شديد: - دا شرب القهوة في الميتم عيب. و أبديت له احتقاري لرأيه، فلو كان شرب القهوة عيبا لما شفط الشيخ المعمم المجرب الذي يجلس إلى جواري أكثر من عشرين قدحا من القهوة في ساعة واحدة. و قال عبد المنعم بنفس الصوت الخافت. - دا مش شيخ.. دا تربي. و رنت كلمة تربي في أذني رنينا غريبا، و ألقيت نظرة على كل الناس فلم أجد أحدا منهم يشرب شيئا، و ليس في الصوان كله من يحمل فناجين قهوة إلا أنا و التربي! و انفجرت ضاحكا رغما عني، و اهتز فنجان القهوة في يدي و انسكب على الشيخ المعمم، و عندما نهض صائحا، الله أكبر، أغرقت في الضحك أكثر و عندما انطلقت الهمسات و الشخطات تنهرني و تأمرني بالسكوت كان الضحك عندي قد انقلب إلى حمى تملكتني، و عندما امتدت الأيدي نحوي تضربني كانت ضحكاتي تفرقع في الصوان كله و المقرئ يتوقف احتجاجا، فلما اشتد الضرب فوق رأسي انطلقت أجري من الصوان، و صاح عبد المنعم يسبني، فقد امتدت الأيدي نحوه هو الآخر فانفجر يضحك، ثم انطلق يجري خلفي و الصوان كله يجري خلفه، و من يومها لم ندخل صوانا معا إلا و نضحك، و لا نرى جنازة في الطريق إلا و نضحك، تكفي لحظتها نظرة مني نحوه، أو نظرة منه نحوي حتى ننفجر ضاحكين و بلا مناسبة
.....
وذات يوم قالوا : إن الملك فؤاد مات ، ولم أكن أعرف من هو الملك فؤاد ولماذا مات ولا كيف يموت الناس ، ولكنه كان يوما سعيدا لأن المدرسة أغلقت أبوابها ووضعونا في أوتوبيسات وذهبوا بنا إلي القاهرة . ووقفنا علي الرصيف نرفع علما وننشد نشيدا ، ولكن عندما بدأ موكب الميت يمر من أمامنا ..تركنا العلم يسقط وكفت حناجرنا الضعيفة عن الصراخ ، ورحنا نصفق ونضحك كلما مر أمامنا موكب العلماء والوزراء والجهلاء الي آخر المواكب التي انتظمت في الجنازة.وكان الي جوارنا مدرسة أخري هي مدرسة محمد علي الإبتدائية ، وكانت مدرسة محمد علي تنافسنا في الكورة ، فلما رأيناها علي الرصيف طاف بخاطرنا أنها جاءت تنافسنا في الجنازة . لذلك تداولنا بسرعة لهزيمة مدرسة محمد علي والانتصار عليها.وكان موكب ضباط الشرطة هو الذي يمر أمامنا حيث تعالت هتافاتنا يا محني ديل العصفورة ، والجيزة هي المنصورة , وياسالمة يا سالامة رحنا وجينا بالسلامة . وانفعلت مدرسة محمد علي فردت علينا ، وزاط الرصيف كله , وتطورت الهتافات الي العبيط أهه ، أهه ، وكان التابوت نفسه يمر أمامنا في تلك اللحظة ملفوفا بعلم أخضر علي مدفع طويل يشبه مدافع رمضان.وتراءي لحضرة الناظر أن يفرض نفوذه علينا فدفعنا في غيظ علي الرصيف ، فدفعنا الخلق الذين يقفون خلفنا في الشارع . واندفعنا نحن بلا مقاومة ، ودفعنا حضرة الناظر معنا فسقط علي الأرض وسقطنا فوقه وأصبح الأمر فوضي ، وانطلقت الصفافير من كل جانب , وانطلقت فرق بلوكات النظام تهرسنا بالأحذية وتضربنا بالشوم ، وقمنا جميعا نجري وسط الجنازة ونقتحم مواكب العلماء والوزراء والجهلاء ونفركشها , وأصبحت الجنازة مسخرة ومضحكة وضاع وقارها بسبب ديل العصفورة والجيزة هي المنصورة !!

2 comments:

koukawy said...

انا من عشاق محمود السعدني و كتبه في بوستات عندي عن كتب بتاعته

Doaa Ebrahim Aaql said...

جميل اختيارك يامحمد

طب ماتكتب كده تانى شوية نصوص

لمحمود السعدنى تانى

ده رائع اووى


سلام